أبيض وأسود، 10 - ... مايو 2009
تحرص إدارة الرئيس (باراك أوباما) حرصا شديدا على تقديم نفسها في ثوب سياسي مختلف عن إدارة الرئيس (بوش الابن)، برفعها لشعاريْ (الانفتاح السياسي على خصوم الأمس والحوار معهم)، و(تصفية الحروب المباشرة التي ورثتها عن الإدارة السابقة في العراق وأفغانستان، واستعادة هيبة الولايات المتحدة باستخدام القوة الذكية).
إلا أن مجلة أبيض وأسود السورية رأت أن التغيرات العملية لسلوك واشنطن في عهد أوباما، قد لا تكون بنفس القدر من الاختلاف عما كانت عليه في عهد سلفه، وهو الأمر الذي حاولت التدليل عليه في عددها الأخير.
رغم أنه من السابق لأوانه الحكم على سياسات (أوباما) في المائة يوم الأولى من حكمه، أو التشكيك في رغبته في الابتعاد عن الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها سلفه، أو التقليل من النتائج الإيجابية على البشرية الناجمة عن توقف إعصار نزعة القوة العاتية لإدارة (بوش الابن)، قد يكون من المطلوب رصد التغيرات العملية لسلوك واشنطن، والحد من بناء مواقف وتصورات تتلهف لمفاضلة أخلاقية وسياسية بين الرئيسين (أوباما) و(بوش الابن)، أو بين نائبيهما (بايدن) و(تشيني). فالولايات المتحدة الأمريكية في عهد (أوباما) لم تتخلَّ بعدُ عن سعيها لأن يكون القرن الحادي والعشرون قرناً أمريكيا، ولم تراجع بعدُ استراتيجيات تأمين مصالحها ومصالح حلفائها في العالم، ولم تفكك عناصر هذه الاستراتيجيات، التي لا تفصل بوضوح بين الجهود الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والعسكرية لتأكيد سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، بما هو ديدن خطط الإدارات الأمريكية في العقود الثماني الأخيرة، بدءا من إدارة (فرانكلين روزفلت) (1932 - 1945)، وصولاً إلى إدارة (بوش الابن) (2001 - 2009)، تارة في احتواء الخصوم بجاذبية النموذج الأمريكي، وتارة بالاحتواء العنيف الذي دفعها لارتكاب أكثر من (250) عدوانا وتدخلا في القارات الخمس منذ العام 1945، أودت بحياة ملايين البشر.
أبشعها إشعال حرب أهلية في اليونان 1949 قتل فيها (154) ألف مواطن يوناني، وشن حرب على فيتنام (1954 - 1975)، أبيد فيها أربعة ملايين فيتنامي، وتدبير انقلاب (سوهارتو) ضد رئيس اندونيسيا (سوكارنو) في العام 1968، أبيد فيه مليون من الإندونيسيين في عمليات إعدام جماعية، وانقلاب على الرئيس (سلفادور اليندي) في تشيلي في العام 1973، أعدم فيه (30) ألفا من مؤيديه، وحصار العراق منذ العام 1991 حتى احتلاله في (نيسان 2003)، وقضى في الحصار والحرب على مدار ثمانية عشر عاما متواصلة أكثر من مليوني مواطن عراقي، واحتلال أفغانستان 2001، الذي يناهز عدد الضحايا المدنيين فيه حتى نهاية 2008 أكثر من ثمانمائة ألف أفغاني. وهذا يدلل على أن الحروب الأمريكية غير المباشرة، لم تكن بنتائجها وكلفتها البشرية والأخلاقية أقل وحشية وهمجية من كلفة الحروب الأمريكية المباشرة، وللاستنتاج السابق صلة وثيقة بمخاطر خطة (الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في القرن الـ21)، الموضوعة من قبل (باراك أوباما) ونائبه (جو بايدين)، والتي قد تؤدي تطبيقاتها العملية لانحراف سياسيات إدارة (أوباما) لسياسات شبيهة بسياسات إدارة (بوش الابن)، وإن اختلفت معها في الشكل وآليات التنفيذ.
وتشير المجلة إلى أن الخطة الاستراتيجية العسكرية (لأوباما) و(بايدين) تنطلق من تقليص التواجد العسكري الأمريكي التقليدي في الخارج، جنبا إلى جنب مع الحفاظ على التفوق النوعي العسكري المطلق، وإعادة هيكلة القدرة العسكرية وفقا لذلك؛ بإعطاء الأهمية القصوى لإنتاج وتحديث أنظمة السلاح الحديثة، لكافة تشكيلات القوات المسلحة، لتحقيق هدف واحد فقط، هو زيادة (القوة الشمولية الأمريكية)، وخاصة (المحافظة على التفوق العسكري في الجو)، برصد موازنات كبيرة للصناعات العسكرية الجوية لتأمين احتياجات القوات الجوية الأمريكية، بما يمكّنها من القيام بعمليات حربية لفترات طويلة في الشرق الأوسط.
وتخطط إدارة (أوباما) لتسليح القوى الجوية بعدد كبير من طائرات الاستطلاع دون طيار، وأحدث وسائل الحرب الإلكترونية، وزيادة عدد طائرات النقل العسكري (C17)، وطائرات تزويد الوقود في الجو(KC-X)، التي تؤمّن قدرة تنفيذ ضرب الأهداف في أية نقطة من الكوكب الأرضي. وتخصيص تمويلات مالية كبيرة لاستمرار الاستراتيجية الأمريكية التقليدية (السيادة في البحر)، حيث تدعو خطة (أوباما - بايدن) إلى (التفوق المطلق الأمريكي في القوى البحرية الحربية). عدا ذلك، تتضمن العقيدة الجديدة التزام الإدارة الجديدة (بنشر السيادة الأمريكية في الفضاء). ذلك أنها تعتبر أنظمة الدرع الصاروخي الدفاعية أولوية هامة (للاستراتجية الأمريكية العسكرية للقرن الـ21)، وهو أكثر المشاريع العسكرية تكلفة من حيث النفقات المالية. وحسب خطة (أوباما - بايدن)، فإن العنصرين الأساسيين للسياسة العسكرية لإدارة (أوباما) هما متابعة مهمة قوات الناتو في أفغانستان، والحفاظ على الشراكة الاستراتيجية مع (إسرائيل)، وأولى المهمات الحساسة للولايات المتحدة الأمريكية في القرن الـ(21) هي توطيد التكامل الداخلي للحلف الأطلسي؛ حيث إن توطيدا كهذا يجب أن يتوصل إليه عبر إجراء عمليات عسكرية مشتركة. والمهمة الأخرى التي توازيها هي الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لـ(إسرائيل)، وفي كلتا المهمتين هناك خطر ماثل للعيان بانحراف الاستراتيجية العسكرية لإدارة (أوباما) نحو سياسة شبيهة باستراتيجية إدارة (بوش الابن)، والتورط في شن حروب عدوانية جديدة، على الأغلب أنها لن تخوضها مباشرة؛ بل عن طريق وكلاء، ولذلك يجب الانتباه بجدية للتهديدات الإسرائيلية ضد إيران، رغم الحسابات الأمريكية والإسرائيلية المعقّدة الرادعة لفكرة شن مثل هذا العدوان، بما فيها محذور الرد الإيراني الموجع.