المشاهد السياسي
إنها مرحلة ما بعد بوش، تبدأ على مستوى العالم كلّه، في الشهر الأول من العام الجديد، وهي التي أطلقت عليها مجلة المشاهد السياسي "مرحلة ما بعد الحذاء". وللمرحلة، بحسب المجلة، ثلاثة عناوين كبيرة: التهيئة للانسحاب من العراق، و تسريع حرب أفغانستان، وتغليب "الدبلوماسية الحازمة" على العمل العسكري في مقاربة الملفّات الساخنة. ولأن صناعة القرار الخارجي في الولايات المتحدة فعل مؤسّساتي لا فعل شخص واحد، هو شخص الرئيس، تساءلت المجلة: ماذا يحمل جدول أعمال باراك أوباما للعام المقبل، بالشراكة مع هيلاري كلينتون؟ وما هي الفرص المتاحة أمام سيد البيت الأبيض الجديد؟ الملفّات المطروحة بقوّة على الفريق الأوبامي الجديد هي: ملف أفغانستان، ملف العراق، ملف الهند وباكستان، الملف النفطي، ملف كوريا الشمالية، بالإضافة إلى الملف الاقتصادي - المالي، وملفّات التجارة العالمية، والنظام النقدي العالمي، وضبط التسلّح وانتشار السلاح النووي، وقضايا البيئة والمناخ.. وما إليها. ومن الواضح حتى الآن، أن الإدارة الأميركية الجديدة سوف تنتهج سياسة مغايرة - أو تغييرية أحياناً - في مقاربة هذه الملفّات، لكنها سوف تلتزم، مثلها مثل الإدارات السابقة جميعها، بأمن إسرائيل قبل أي اعتبار آخر.والسؤال: من أين يبدأ الرئيس الجديد وفريق عمله؟ وأين موقع الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي بشكل عام من هذه البدايات؟إن مراجعة مواقف الرجل القادم تحت عنوان: "التغيير" تسمح بالتوقّف عند مجموعة من الحقائق، لعلّ أبرزها:١ - إغلاق معتقل غوانتانامو، الذي يضمّ ٢٥٠ سجينًا، وتسبّب حتى الآن في استياء عالمي كبير من طريقة أميركا في التعاطي مع حقوق الإنسان، وسيكون إغلاق المعتقل وإخضاع من فيه لمحاكمة عادلة خطوة أوبامية في الاتجاه الصحيح.٢ - المحطّة الثانية في التغيير هي - إذا صحّ التعبير - المرحلة الهيلارية في القرار الخارجي؛ ذلك أن السيدة التي تعرف جيّدا خفايا البيت الأبيض، تتّفق مع أوباما على ضرورة سحب القوّات الأميركية أو معظمها من العراق، وعلى ضرورة إنهاء هذه الحرب. كما تتفق معه على اعتبار أفغانستان هي الجبهة الأولى للحرب الأميركية على الإرهاب، وعلى حشد المزيد من القوّات هناك لهذا الغرض.ورغم اختلاف هيلاري عن أوباما حول طريقة التعامل مع إيران، فسيبقى التوافق قائمًا حول ضرورة منع إيران من امتلاك أسلحة نوويّة تهدّد إسرائيل، والدفاع عن الأخيرة في حال تعرّضها لأي خطر إيراني.وعلى صعيد القضية الفلسطينية، ترفض هيلاري حتى الآن، الحوار مع "حماس"، وهي تشترط من أجل إقامة هذا الحوار تخلّي "حماس" عن (لاءاتها) الثلاث، لجهة الاعتراف بإسرائيل، ونبذ القوّة المسلّحة، والاعتراف بالاتفاقيات السابقة التي وقّعتها إسرائيل مع منظّمة التحرير الفلسطينية. الذين يعرفون آليّات اتخاذ القرار الخارجي يقولون: إن السياسة الخارجية سوف تخضع في النهاية لبصمات ثلاث شخصيات هي: الرئيس الجديد، ونائبه جوزف بايدن، الخبير في الشؤون الدولية، والذي تفوق خبرته خبرة وزيرة الخارجية، وجيمس جونز، مستشار الأمن القومي الجديد. وربما الذي دفع المجلة لتبني قناعة التغيير الذي وعد بها أوباما، هو أن جونز معروف بانتقاده اللاذع لأساليب بوش في التعاطي مع القضايا الخارجية، وقد كان مسؤولاً عن تحقيقين طلب الكونغرس فتحهما حول حربي العراق وأفغانستان، وهذا كلّه يفرض على هيلاري التنسيق مع هذه المواقع.وتستطرد المجلة لتتحدث عن تقويض عدوانية البنتاغون، التي تجلت بوضوح خلال السنوات الثماني الماضية.العنوان الثالث في "التغيير" الذي وعد به أوباما، على مستوى السياسة الخارجية، يمكن اختصاره في فتح صفحة جديدة مع العالم، بعد أن تضرّر مظهر الولايات المتحدة بصورة دراماتيكية خلال سنوات العهدين البوشيّين، بفعل اعتمادها على عسكرة السياسة الخارجية، أي اعتماد الحلّ العسكري بدلاً من القوّة الناعمة في معالجة الأزمات الدولية. والمسألة تختصر في تحويل السياسة الخارجية من طابعها الهجومي إلى تفعيل الدور الدبلوماسي الأميركي، والمساعدات الاقتصادية، وإعادة الإعمار، فضلاً عن عمليات التدريب لأغراض التنمية.وتُظهر مراجعة ميزانيّتي الدفاع والخارجية حجم الهُوّة التي تفصل بينهما؛ ففي الوقت الذي تمّ تخصيص ٥٧٢ مليار دولار لوزارة الدفاع من ميزانية العام ٢٠٠٩، إلى جانب ١٥ مليارا كل شهر لحربي العراق وأفغانستان، لا تتعدّى ميزانية وزارة الخارجية الـ٤٠ مليارا، وهي بذلك تقترب من ميزانية أجهزة المخابرات. وهذا يعني أن الميزانية العسكرية تعادل ١٣ ضعفا الميزانية الدبلوماسية، الأمر الذي يعكس حجم اهتمام المحافظين الجدد بتغليب الخيار العسكري على الخيار الدبلوماسي.والمقارنة التاريخية بين ميزانيتي الوزارتين تُظهر بطبيعة الحال تقدّم أرقام وزارة الدفاع، وذلك منذ العام ١٩٤٧، لكن ميزانية الدفاع بلغت مستويات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، مما يعزّز عدائية البنتاغون. وقد طالب جنرالات الجيش أخيرا بزيادة مخصّصات وزارتهم ٤٥٠ مليار دولار إضافية للسنوات الخمس المقبلة، تبدأ بزيادة ١٠ في المائة على الميزانية الأساسية لتصل إلى ٦٠٠ مليار دولار في العام ٢٠١٠، في حين لم تتجاوز الزيادة المطلوبة على ميزانية وزارة الخارجية ٣.٣ مليارات دولار.وليس سرًّا أن السياسات البوشيّة اعتمدت طوال ولايتين على القوّة العسكرية أكثر مما اعتمدت على العمل الدبلوماسي. وكثيرون باتوا ينظرون إلى الولايات المتحدة كقوّة استعمارية لا تقيم وزنا للقانون الدولي، بعدما كانت نموذجا رائعا لنشر الحرّيّة والديمقراطية في العالم. والأسلوب العسكري رتّب خسائر فادحة، اقتصادية وأخلاقية معاً على مستوى الداخل الأميركي، كما أوجد كمّا كبيرا من الكراهية للولايات المتحدة في العالم كلّه. ومن هنا فإن الرئيس الأميركي الجديد مطالب باعتماد سياسة خارجية تقوّض عدوانية البنتاغون، وتحوّل العمليات العسكرية من عمليات قتالية إلى عمليات يقصد منها حفظ الأمن والاستقرار في مناطق النزاع، إلى جانب الاستعانة بقوّة محدودة لمواجهة الأخطار المستقبلية الناتجة من العمليات الإرهابية.
No comments:
Post a Comment